مختصر كتاب
«أحكام الشتاء في السنة المطهرة»
«أحكام الشتاء في السنة المطهرة»
أبو عثمان السلفي |
[size=12][size=16]إنَّ الحَمْدَ للهِ؛ نَحْمَدُهُ، وَنسْتَعِينُهُ، وَنَسْتْغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ -وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ-.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد: فرأيتُ من المناسب ونحن مقبلون على فصل الشتاء التحدثّ عن مسائل مهمة حول (أحكام الشتاء )، وقد كتب أهل العلم مؤلفات في ذلك، مثل: «إرشاد الفتى إلى أحاديث الشتا» للشيخ يوسف بن عبدالهادي، و«أحاديث الشتاء» للسيوطي، و«المطر والرعد والبرق والريح» لابن أبي الدنيا، و «الصلاة في الرحال عند تغير الأحوال» للشيخ عبدالله العُبيلان، و«الجمع بين الصلاتين في الحضر بعذر المطر» للشيخ مشهور حسن و «الإخبار بأسباب نزول الأمطار» للشيخ عبدالله الجار الله –رحمه الله-.
وقبل التحدث عن الأحكام الفقهية المتعلقة بالشتاء نذكر بعض الفوائد:
أولاً: لم ترد كلمة الشتاء في القرآن الكريم سوى مرةً واحدة، وذلك في قوله تعالى: {لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف}.
قال الإمام مالك –رحمه الله-: الشتاء نصفُ السَّنة، والصيف نِصفها.
ثانياً: روى البخاري ومسلم –تحت باب- (بيان كفر من قال: مُطرنا بالنوء ) عن النبي –صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟»، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «أصبح مِن عبادي مؤمن بي وكافر، فأمَّا من قال : مُطِرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي وكافرٌ بالكوكب ، وأما من قال : مُطِرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب».
والنوء جمعه أنواء: وهي منازل القمر، فمن اعتقد أنه مُطر بنجم كذا أو بنوء كذا فهذا شرك وكفر، وهذا ما كان يعتقده أهل الجاهلية وهو الشرك الذي بعث الله الرسل بالنهي عنه ومحاربتِه.
ثالثاً: إن ما قلناه عن النوء يلزم منه بيان حكم ما يكثر الكلام حولَه مما يُسمى بالأرصاد الجوية أو تنبؤات الطقس، وحكم الشرع فيه؟
فهذه التتبؤات دراسات علمية متطورة تقوم في مجملها على التقاط صور الغيوم وسمكها، مع معرفة حركة الرياح واتجاهاتها، وسرعتها، ثم على ضوء ذلك تَوقُّعُ الحالةِ الجويةِ المستقبيلة لمدة يوم أو أكثر من حيث درجات الحرارة، وكميات الأمطار ونحوُ ذلك.
وتشير الدراسلت العلمية الحديثة إلى احتمالية صدق التنبؤات الجوية لمدة يومين قد تصل إلى 90%، وإذا كانت المدة من خمسة أيام إلى سبعة تهبط إلى نحو 60%.
فكما سمعنا أن ما سبق كله قائم على مقدمات تتبعها نتائج،مبنية على توقعات واحتمالات، وهذا كلَّه من الناحية الشرعية جائز ومشروع، ولكن ننبه على أمرين:
الأول: وجوب ربط هذا التوقع بالمشيئة الإلهية، لأن حالاتٍ كثيرةً وقعت في كثير من البلاد جرى فيها خلاف المُتوقَّع، وعكس ما ذكرته الأرصاد البجوية فحصل ما لا تُحمد عقباه.
الثاني: هذه التوقعات ليست من علم الغيب في شيء، إنما هي توقعات مبنية على مقدمات تتبعها نتائج، فلا يجوز إصدارها بصور القطع، ولا يجوز تلقيها بصورة الجزم، وإنما هي نافعة للحيطة والحذر.
رابعاً: قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «ليست السَّنةُ ألا تُمطروا، ولكن السَّنة أن تمطروا ولا تُنبِتُ الأرض شيئاً». رواه مسلم وابن حبان في صحيحه وبوب عليه بقوله: (ذِكر الإخبار عما يجب على المسلمين مِن سؤالهم ربَّهم أن يبارك لهم في ريعهم، دون الاتكال منه على الأمطار ).
والمراد بالسَّنة هنا القحط، ومنه قوله تعالى: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسِّنين}.
خامساً: قال أبو هريرة: «إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطرِ أربعين ليلة»، وله حكم الرفع.
وبهذه الفوائد نختم هذه الحلقة، ونتحدث –بمشيئة الله- عن: الطهارة وما يتعلق بها من الوضوء من البرد- وحكم طين الشوارع، والتيمم، والمسح على الخفين، وعن الأذان، والجمع بين الصلاتين، وعن صلاة الاستسقاء والجمعة والخوف، بالإضافة إلى أحكام عامة في الصلاة من: تغطية الفم، والسدل، واشتمال الصماء، ولُبْس القفازين، والصلاة إلى النار، والصلاة على الراحلة أو السيارة خشية الضرر، وعن المساجد وما يتعلق فيها من قطع الصفوف بسبب المدفأة، والفوضى الناشئة عن الجمع أو عدمه، وعن الصيام، وحكم أكل البَرَد للصائم، وعن الزكاة والجهاد والأذكار المشروعة، وعن علامات الساعة، وغير ذلك من الفوائد، بالإضافة إلى التنبيه على الأحاديث الضعيفة، وغير ذلك.
نسأل الله التوفيق والسداد.
مبحث الطهارة
وفيه أبحاث:
أولاً: ماء المطر: قال الله -تعالى-: {وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً}، قال الإمام البغوي: «هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره».
ثانياً: الوُضوء في البرد: قال –صلى الله عليه وسلم-: «ثلاث كفارات... وإسباغ الوضوء في السَّبرات».
قال المُناوي: «هي شدة البرد»، وفي مسند أحمد أن رجلاً مِن ثقيف قال: سألنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ثلاثاً فلم يرخص لنا، فقلنا: إن أرضنا باردة، فسألناه أن يرخص لنا في الطُّهور، فلم يرخص لنا.
فإسباغ الوُضوء مأمور به شرعاً كما في قوله –صلى الله عليه وسلم-: «أسبغوا الوضوء» ، ويزداد الأجر عند البرد والمشقة.
وإسباغ الوضوء: «إتمامه وإفاضة الماء على الأعضاء تامّاً كاملاً، وزيادة على مقدار الواجب».
وهنا ثلاث مسائل:
الأولى: أن بعض الناس يتساهلون في أيام البرد في الوضوء كثيراً: لا أقول: لا يسبغون، وإنما لا يأتون بالقدر الواجب، حتى إن بعضهم يكاد يمسح مسحاً! وهذا لا يجوز ولا ينبغي، بل قد يكون من مبطلات الوضوء.
وأيضاً بعض الناس لا يُفسرون أكمامهم عند غَسل اليدين فسراً كاملاً، وهذا يؤدي إلى أن يتركوا شيئاً من الذراع بلا غَسل، وهو مُحرم، والوضوء معه غير صحيح، فالواجب أن يفسر كُمّه إلى ما وراء المرفق،ويغسل المرفق مع اليد لأنه من فروض الوضوء.
الثانية: بعض الناس يتحرجون مِن تسخين الماء للوضوء، وليس معهم أدنى دليل شرعي.
وروى مسلم في «صحيحه» أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات». قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «إسباغ الوضوء على المكاره... »، قال القرطبي: أي: تكميله وإيعابه مع شدة البرد وألم الجسم ونحوه.
وقال الأُبي: تسخين الماء لدفع برده ليتقوى على العبادة لا يَمنع من حصول الثواب المذكور.
الثالثة: يتحرج بعض الناس مِن تنشيف أعضاء الوضوء في البرد، إما لعادته في أيام الحرِّ وإما تأثُّماً فيما يظنون، وهذا ليس له أصل؛ بل ثبت عن النبي –صلى الله عليه وسلم-: «أنه كان له خِرقة يتنشف بها بعد الوضوء».
ثالثاً: طين الشوارع: يكثر في فصل الشتاء الوَحَل والطين، فتصاب به الثياب، مما قد يُشْكل حكم ذلك على البعض فأقول: لا يجب غَسل ما أصاب الثوب من هذا الطين؛ لأن الأصل فيه الطهارة، وثبت عن عدد من التابعين: (أنهم كانوا يخوضون الماء والطين في المطر، ثم يدخلون المسجد فيصلون ).
ومثل ذلك: ما لو سقط ماءٌ على المرء لا يدري أنجس هو أم طاهر؟! فلا يجب عليه أن يسأل دفعاً للتكلف والوسوسة، إلا إذا تيقن من النجاسة فيجب عليه وقتئذ تطهيرها.
رابعاً: التيمم:
من لم يجد الماء، أو عَجَزَ عن استعماله لبُعد أو مرض أو شدة برد مع عدم القدرة على تسخينه يجوز له أن يتيمم، ولا إعادة عليه.
والتيمم ضربة واحدة للوجه والكفين.
والأصل فيه أن يكون على تراب وإلا فعلى حجارة أو حصى وهكذا.
( تنبيه ) : وقع قبل سنوات –في بلدنا- سقوط سقط ثلج بشكل كبير كثيف مما أدى إلى انجماد المياه في صنابيرها الموصلة إلى البيوت، وعدم القدرة على الإفادة منها، فهل هذا يُجيز التيمم أم ماذا؟
الذي أراه –جتهاداً- في هذه الحالة مع وجود الثلج الكبير في حارج البيت أن يأخذ كوماً من الثلج ويذيبه –إن تيسر له ذلك- ثمّ يتوضأ به، فإن لم يستطع، فلا يكلف اللهُ نفساً إلا وسعها.
المسح على الخفين والجوربين
قال الإمام ابن دقيق العيد: «وقد اشْتَهر جواز المسح على الخفين عند علماء الشريعة، حتى عُدَّ شعاراً لأهل السنة، وعُد إنكاره شعاراً لأهل البدع»، ولا فرق من حيث الحكم بين الجوربين وبين الخفين.
وقام علامة الشام الشيخ محمد جمال الدين القاسمي –رحمه الله- بجمع الأحاديث النبوية التي تُثبت المسح على الجوربين في كتاب سماه «المسح على الجوربين»، وهنا مسائل:
الأولى: أن الجورب معروف لكل أحد؛ وهو مطلق ما يُلبس في الرِّجل من غير الجلد، سواءٌ أكان رقيقاً أو غليظاً، ونقل النووي جواز المسح على الجوربين وإن كانا رقيقين عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب –رضي الله عنها-.
المسألة الثانية: هل يجوز المسح على النّعل؟
يجوز؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، كما صح في السنة.
المسألة الثالثة: الجورب أو الخف المخروق:
يجوز المسح على الخف المخروق ما دام اسمه باقياً، والمشي فيه ممكناً، وهذه رخصة، وكانت خفاف المهاجرين والأنصار مُخرقة مشققة بسبب الفقر، ولو كان الخَرق يَمنع من المسح لبينه النبي -صلى الله عليه وسلم-.
المسألة الرابعة: توقيت المسح:
وقَّتَ النبي -صلى الله عليه وسلم- للمقيم يومٌ وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام للمسح على الخفين.
ولكن: من أين يبدأ التوقيت في المسح؟
مِن اللُّبس؟ أم من أول حدث؟ أم من أول مسح؟!
والراجح أنه من أول مسح؛ لظاهر قوله -صلى الله عليه وسلم- : «يمسح المسافر على خفيه ثلاثة أيام... والمقيم يوماً وليلة». وقول عمر بن الخطاب: يمسح عليهما إلى مثل ساعته من يومه وليلته. وهو أعلم بمعنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- ممن بعده، وهو أحد من روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- المسح على الخفين، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «عليكم بسنتي وسنةِ الخلفاء الراشدين بعدي». وقال النووي: (وهو المختار الراجح دليلاً ).
وهنا توضيح: أنه لا عبرة بعدد الصلوات، بل العبرة بالزمن فللمقيم أربعٌ وعشرون ساعة، وللمسافر اثنتان وسبعون ساعة بعد المسح. ونضرب مثلاً على ذلك: رجل تطهر لصلاة الفجر ثم لبس الخفين وبقي على طهارته إلى صلاة العصر، وفي الساعة الخامسة تطهر لصلاة المغرب ثم مسح، فهذا الرجل له أن يمسح إلى الساعة الخامسة إلا ربعاً من اليوم الثاني وبقي على طهارته حتى صلى المغرب وصلى العشاء، فيكون حينئذ صلى تسع صلوات صلها، وبهذا علمنا أنه لا عبرة بعدد الصلوات كما هو مفهومٌ عند كثير من الناس حيث يقولون: إن المسح خمسة فروض. وهذا الكلام لا أصل له.
المسألة الخامسة: هل يشترط لُبس الجوربين على طهارة؟ نعم يشترط، وهذا باتفاق أهل العلم.
ولكن اختلفوا في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إني أدخلتهما طاهرتين». إذا غسل إحدى رجليه فأدخلها في الجورب ثم غسل الأخرى فأدخلها في الجورب هل المسح يكون صحيحاً أم انه يجب عليه أن يلبس الجوربين بعد غَسل كلتا رجليه.
والظاهر أنه لا يلزم أن يلبس الجورب بعد غسلهما جميعاً، ومن أراد أن يحطاط فله ذلك.
المسألة السادسة: هل نزع الجوربين بعد المسح ينقض الوضوء؟
اختلف أهل العلم في ذلك، فنهم من رأى أنه لا ينقض الوضوء، ومنهم من يحكم بالنقض، ومنهم من أوجب عليه غَسْل الرجلين.
والراجح أنه لا ينقض الوضوء، ولا يجب عليه أن يغسل الرجلين، لأن المسح رخصة وتيسير من الله، والقول بغيره ينافي ذلك، وثبت عن علي بن أبي طالب أنه مسح على نعليه ثم خلع نعليه صلى. ومن ناحية أخرى: أنه لو مسح على رأسه ثم حلَق شعر رأسه لم يجب عليه أن يعيد المسح ولا الوضوء.
تنبيه: من خلع جوربه الممسوح عليه ثم أعاد لُبْسه، هل يجوز له ذلك ثم المسح عليه؟!
والصواب منع ذلك.
المسألة السابعة: لُبس جورب فوق جورب؟
إذا لَبِس الجوربين على طهارة لا إشكال في جواز المسح عليهما.
أما إذا لَبِس الثاني على غير طهارة فلا يجوز أن يمسح عليه.
ولو أنه خلع الجورب الثاني الذي لَبِسه على طهارة يجوز له الاستمرار في المسح على الجورب الأول.
والحكم نفسه فيمن لَيِس نعلين فوق جوربين سواء بسواء، بشرط لُبْس الجميع على طهارة.
المسألة الثامنة: هل انقضاء مدةِ المسحِ يُبطل الوضوء؟
في ذلك أقول: منهم من يبطله، ومنهم من يُلزم بغسل القدمين، ومنهم من يقول: لا شيء عليه وطهارته صحيحة.
وهذا هو الراجح؛ لأن الطهارة لا يَنقُضُها إلا الحدث، وهذا قد صحت طهارته، ولم يُحدث، فهو طاهر، والطاهر يصلي ما لم يُحدث، ولم يأت نص في أن طهارته انتقضت.
المسألة التاسعة: هل يشترط سبقُ النية للمسح، أو لمدة المسح؟قال الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله-:
«النيةُ هنا غيرُ واجبةٍ، لأن هذا عمل عُلّق الحُكمُ على مجرد وجوده، فلا يحتاج إلى نية، كما لو لَبِس الثوب، فإنه لا يُشترط أن ينويَ به ستر عورته في الصلاة –مثلاً-، فلا يُشترط في لُبس الخفين أن ينويَ أنه سيمسح عليهما، ولا كذلك نيّة المدة، بل إن كان مُسافراً فله ثلاثة أيام نواها أم لم ينوها، وإن كان مقيماً فله يوم وليلة نواها أم لم ينوها».
[/size]