بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله الذي يعطي الكثير على القليل ، ويتفضل على العمل الصغير بالأجر
الكبير ، وينظر إلى القلوب والأعمال ، ولا ينظر إلى الصور والأموال ، وهو
العظيم القدير ، والصلاة والسلام على البشير النذير ،والسراج المنير ، خير هاد
وأقوم دليل ، ما من خير إلا ودل عليه ورغب فيه وسابق إليه ، وهو لذلك أهل ،
فالله أعلم حيث يجعل رسالته ،ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ، وأشهد ان لا
إله إلا الله ،وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد :
فيا باغي الخير أقبل !
فهذا ميدانك العظيم يناديك ، ويفتح ذراعيه لك …
فها هي الصدقات الجارية التي يجري نفعها لك ما جرت منفعتها لغيرك ..
توقعها مرة ، فيقع لك اجرها كل مرة !
فعن سليمان الفارسي _رضي الله _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
اربع من عمل الأحياء تجري الأموات : رجل ترك عقبا صالحا يدعوا له ينفعه دعاؤهم
، ورجل تصدق بصدقة جارية من بعده له أجرها ما جرت له ، ورجل علم علما فعمل به
من بعده ، له مثل أجر من عمل به من غير أن ينقص من أجر من يعمل به شئ ).صحيح
الجامع 1/215 (888)
وهكذا همتك _ أيها التاجر الماهر _ لا بد أن ترقى لتحوز الأجر المستمر والثواب
المتصل الذي لا ينقطع أجره ولا يمتنع بره لمرة واحدة فقط كغيره من الأعمال ،
بل يتتابع فيه الأجر ويتعاقب فيه الثواب ، لتغنمه جميعا في يوم الجزاء والحساب
.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا مات
ابن الإنسان انقطع عمله من ثلاث ، صدقة جارية ، أو عمل ينتفع به ، ولد صالح
يدعوا له ).مسلم 3/1016(1631)
وها أنت ترى بعين بصرك وبصيرتك سعة رحمة الله بنا ومبلغ فضله علينا ، يوم فتح
لنا باب الغنيمة من الأجور التي تتهادى كالزهور في زهو وألق بين عيون كل مسدد
وموفق ، ويعمى عنها من أسكرته وكبلته الزلة ، ومن وقع في فخ المعصية تكبلت
قدمه بقيود الخذلان والحرمان عن الطاعة والإحسان ، والمهدي من هداه مولاه ،
فلا حول ولا قوة إلا بالله !
واها على أحوال قوم أعرضوا
يا معرضين عن الكريم تعرضوا
عن بابكم كم فاتهم خيرات
فلربكم في دهركم نفحات
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (افعلوا
الخير دهركم ، وتعرضوا لنفحات رحمة الله ، فإن لله نفحات من رحمته ، يصيب بها
من يشاء من عباده ، وسلوا الله أن يستر عوراتكم ، وأن يؤمن روعاتكم ).الصحيحة
4/511(1890)
وبين يدي كل عامل خامل يوم الحسرة والتغابن الذي يندم فيه على تفريطه ، ويتبرم
فيه من عجزه ، ويتألم فيه على تقصيره ، ومما فاته من بذر الخير كان في متناول
يده ، فأضاعه في زمن الغرس ، وجناه ألما وندما في يوم الحصاد !
قال تعالى : {يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي
}.الفجر 23-24
وقال تعالى :{واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب
بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت
لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى
العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين }.الزمر55-58
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (
أفضل المؤمنين أحسنهم خلقا ، وأكيسهم _ أي العاقل الريب _ أكثرهم للموت ذكرا
وأحسنهم استعدادا ، اولئك الأكياس ).الصحيحة 3/372(1384)
وغليك ايها الرائي بعض الصور المشرقة من الصدقات الجارية التي ينبغي لكل مسلم
أن يأت بها ولو مرة واحدة في العمر ليكون من أهلها ، فما يدرك كله ، لا يترك
جله .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الدين
يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا وأبشروا ، واستعينوا
بالغدوة والروحة وشئ من الدجلة ) .البخاري 1/23 (39 )
والناس في هذا الميدان ما بين مقبل ومدبر ، ومستقل ومستكثر ، ومسترسل ومستحسر
، فالعاقل يغنم ما يقدر عليه مما وقع تحت يديه ن لأنه في مهمة عمل ورحلة
استكثار من العمل الصالح الذي تستجلب به رحمة الرحيم الرحمن ، وتستدفع به نقمة
العزيز الجبار .
وقد جمعت من سبل الصدقات الجارية ما أرجوا أن يكون في متناول ايدي الجميع
أغنياء وفقراء ، أقوياء وضعفاء ، ذكورا وإناثا ، وليس لأحد عذر في ترك العمل
الصالح ، وإن كان يسيرا ، وفي أعين البعض صغيرا أو حقيرا !
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما
العلم بالتعلم ، والحلم بالتحلم ، ومن يتحر الخير يعطه ، ومن يتوق الشر يوقه
).الصحيحة 1/605(342)
فها هو البحر الهادر بين يديك ، فغص لججه ، واقتحم ثبجه ، واجمع كنوزه ودرره ،
ومعدنه وجوهره ، ولا تكن من الخوالف فتدركك المتالف ، والله المستعان على كل
حال.