العز بن عبدالسلام، واحد من الرواد الصادقين الذين لم تشغلهم مؤلفاتهم ووظائفهم عن الجهر بكلمة الحق، وتبصير الناس، ومحاربة البدع، ونصح الحكام، وخوض ميادين الجهاد، حتى طغى هذا النشاط على جهدهم العلمي، وهم المبرزون في علومه،
واقترنت أسماؤهم بمواقفهم لا بمؤلفاتهم، وحمل التاريخ سيرتهم العطرة تسوق إلى الناس جلال الحق، وعظمة الموقف، وابتغاء رضا الله، دون نظر إلى سخط حاكم أو تملق محكوم، حيث ينطق بما يعتقد أنه الصواب والحق، غير ملتفت إلى غضب هذا أو رضا ذاك.
في دمشق كان مولد عبدالعزيز بن عبدالسلام المعروف بالعز سنة 1181م، وبها نشأ وتلقى تعليمه، وكانت دمشق منذ العصر الأموي حاضرة من حواضر العلم تزخر بالعلماء وتموج فيها الحركة العلمية، ويقصدها العلماء من الشرق والغرب.
ولم يطلب العز العلم صغيراً مثل أقرانه، وإنما ابتدأ في سن متأخرة،
وانتظم في التزام حلقات الدرس، وأكب على العلم بشغف ونهم وهمة عالية، فحصّل في سنوات قليلة ما يعجز أقرانه عن تحصيله في سنوات طويلة،
ورزقه الله الفهم العميق والذكاء الخارق، فأعانه ذلك على إتقان الفقه والأصول، ودراسة التفسير وعلوم القرآن وتلقي الحديث وعلومه، وتحصيل اللغة والأدب والنحو والبلاغة.
وأشهر شيوخ العز ما ذكرهم السبكي في طبقات الشافعية بقوله:
تفقه على الشيخ فخر الدين بن عساكر،
وقرأ الأصول على الشيخ سيف الدين الآمدي وغيره،
وسمع الحديث من الحافظ أبي محمد القاسم بن عساكر.
اتجه العز إلى التدريس وإلقاء الدروس في مساجد دمشق وفي بيته،
وفي المدارس التي كانت تتعهدها الدولة، مثل: المدرسة الشبلية، والمدرسة الغزالية بدمشق،
وكان في الشيخ حب للدعابة وميل إلى إيراد الملح والنوادر يلطف بها درسه، وينشّط تلاميذه الذين أعجبوا بطريقته، وبعلمه السيال وأفكاره المتدفقة وأسلوبه البارع، وسرعان ما طار صيت العز، وطبقت شهرته الآفاق، وقصده الطلبة من كل مكان،
ولما هاجر إلى مصر عمل بالمدرسة الصالحية،
وانصرف إلى إلقاء الدروس في المساجد، والتف الناس حوله يجدون فيه عالماً شجاعاً ومدرساً بارعاً.
ولم يكن التدريس فقط ميدانه المحبب، وساحته التي يرمي بأفكاره فيها، ويلتقي بالصفوة من تلاميذه، يمدهم بقبس علمه، وصفاء روحه، وإخلاص نفسه، ويقدم الصورة والمثال لما ينبغي أن يكون عليه العالم القدوة من الالتزام والانضباط،
وإنما أضاف إلى ذلك مجالاً أرحب بتوليه الخطابة في الجامع الأموي بدمشق سنة 1239م، وكان خطيباً بارعاً،
يملك أفئدة السامعين بصوته المؤثر، وكلامه المتدفق، وإخلاصه العميق، ولم يكن يؤثر استخدام السجع المفرط كما كان يفعل أقرانه، ولا يدق مثلهم بالسيف الخشبي على أعواد المنابر، ولا يرتدي السواد، وإنما كان فيه سلاسة ويسر، يبتعد عن التكلف في الكلام، ويصيب بحديثه الطيب شغاف القلوب، فيعمل فيها ما لا تعمله عشرات الدروس والمواعظ الخالية من الروح، الفقيرة من العاطفة.
وشاء الله أن يخسر المسلمون في دمشق خطب الشيخ الجامعة، فلم يستمر في الخطابة سوى سنة تقريباً، وفقد المنصب بسبب شجاعته وقرعه بالنكير على صنيع الصالح إسماعيل حاكم دمشق، بعد أن وضع يده في يد الصليبيين، وتحالف معهم ضد ابن أخيه الصالح أيوب حاكم مصر،
وكان ثمن هذا الحلف أن سلّم لهم صيدا وشقيف وصفد، ولم يكتف الصالح إسماعيل بتصرفه الشائن وإنما سمح لهم بدخول دمشق لشراء السلاح لقتال المسلمين في مصر.
ولم يكن الشيخ ليسكت عن خطأ أو يسمح بتجاوز في حق الأمة، أو تفريط في ثوابتها؛ فأفتى بحرمة بيع السلاح للفرنج بعد أن ثبت أنه يُستخدم في محاربة المسلمين، ثم أعقب ذلك بخطبة مدوية في الجامع الأموي، قبح فيها الخيانة وغياب النجدة والمروءة، وذم ما فعله السلطان وقطع الدعاء له بالخطبة.
وما كان من الصالح إسماعيل إلا أن أقدم على عزل الشيخ الجليل عن الخطابة والإفتاء، وأمر باعتقاله، ثم فك حبسه بعد مدة خوفاً من غضبة الناس وألزمه بيته، ومنعه من الإفتاء.
أيقن الشيخ صعوبة الحركة مع حاكم يفرّط في الحقوق، ويقدم على الخيانة بنفس راضية، فقرر الهجرة إلى بلد يمارس فيها دعوته، ويدعو إلى الله على بصيرة، عالي الجبين، مرفوع الهامة، فولّى شطره إلى القاهرة، ورفض العودة إلى دمشق بعد أن طلب منه بعض دعاة الصلح أن يترفق بالسلطان، ويلاينه وينكسر له حتى يرضى عنه،
وأطلق عبارته الكريمة للساعي إلى الصلح: “يا مسكين ما أرضاه أن يقبّل يدي، فضلا أن أقبل يده، يا قوم أنتم في واد، وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به”.
وصل الشيخ إلى القاهرة سنة 1241م واستقبله الصالح أيوب بما يليق به من الإكرام والتبجيل، وولاه الخطابة في جامع عمرو بن العاص، وعينه في منصب قاضي القضاة،
والإشراف على عمارة المساجد المهجورة بمصر والقاهرة، وهي الأعمال التي تناط الآن بوزارة الأوقاف، لكنها كانت تستند في ذلك الوقت إلى القضاة؛ لأمانتهم ومكانتهم الدينية والاجتماعية.
قبل الشيخ الجليل منصب قاضي القضاة ليصلح ما كان معوجاً، ويعيد حقاً كان غائباً، وينصف مظلوماً، ويمنع انحرافاً وبيلاً، فلم يكن يسعى إلى جاه وشهرة،
وفي أثناء قيامه بعمله اكتشف أن القادة الأمراء الذين يعتمد عليهم الملك الصالح أيوب لا يزالون أرقاء، لم تذهب عنهم صفة العبودية، والمعروف أن الملك الصالح أكثر من شراء المماليك،
وأسكنهم جزيرة الروضة واعتمد عليهم في إقامة دولته وفي حروبه، وهؤلاء المماليك هم الذين قضوا على الدولة الأيوبية في مصر وأقاموا دولتهم التي عُرفت بدولة المماليك.
وما دام هؤلاء الأمراء أرقاء فلا تثبت ولايتهم ونفاذ تصرفاتهم العامة والخاصة ما لم يُحرروا، فأبلغهم بذلك، ثم أوقف تصرفاتهم في البيع والشراء والنكاح وغير ذلك، مما يثبت للأحرار من أهلية التصرف، فتعطلت مصالحهم، وكان من بين هؤلاء الأمراء نائب السلطان.
وحاول هؤلاء الأمراء مساومة الشيخ، فلم يفلحوا وأصر على بيعهم لصالح بيت المال، ثم يتم عتقهم ليصبحوا أحراراً تنفذ تصرفاتهم،
قائلا لهم: نعقد لكم مجلساً، ويُنادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعي، وما كان ذلك ليرضيهم فرفضوا ورفعوا الأمر إلى السلطان الصالح أيوب، فراجع الشيخ في قراره فأبى، وتلفظ السلطان بكلمة ندت منه أغضبت الشيخ،
وفهم منها أن هذا الأمر لا يعنيه ولا يتعلق بسلطته، فانسحب الشيخ وعزل نفسه عن القضاء، فما قيمة أحكامه إذا لم تُنفذ، وردها صاحب الجاه والسلطان.
وما إن انتشر خبر ما حدث، حتى خرجت الأمة وراء الشيخ العز الذي غادر القاهرة، وأدرك السلطان خطورة فعلته، فركب في طلب الشيخ واسترضاه وطيب خاطره واستمال قلبه، وطلب منه الرجوع معه، فوافق العز على أن يتم بيع الأمراء بالمناداة عليهم.
وكم كان الشيخ مهيباً جليلا وهو واقف ينادي على أمراء الدولة واحداً بعد واحد، ويغالي في ثمنهم حتى إذا ارتفع السعر إلى أقصى غايته، وعجز المشترون قام السلطان الصالح أيوب بدفع الثمن من ماله الخاص، إلى الشيخ الشجاع الذي أودع ثمنهم بيت مال المسلمين،
وكانت هذه الوقعة الطريفة سببا في إطلاق اسم بائع الملوك على الشيخ المهيب.
وتكرر هذا الأمر منه عند بيعة الظاهر بيبرس حين استدعى الأمراء والعلماء لبيعته، وكان من بينهم الشيخ العز، الذي فاجأ الظاهر بيبرس والحاضرين بقوله: يا ركن الدين أنا أعرفك مملوك البندقدار -أي لا تصح بيعته؛ لأنه ليس أهلا للتصرف- فما كان من الظاهر بيبرس إلا أن أحضر ما يثبت أن البندقدار قد وهبه للملك الصالح أيوب، الذي أعتقه، وهنا تقدم الشيخ فبايع بيبرس على الملك.
وكان الظاهر بيبرس على شدته وهيبته يعظم الشيخ العز ويحترمه، ويعرف مقداره، ويقف عند أقواله وفتاواه،
ويعبر السيوطي عن ذلك بقوله: وكان بمصر منقمعاً، تحت كلمة الشيخ عز الدين بن عبدالسلام، لا يستطيع أن يخرج عن أمره حتى إنه قال لما مات الشيخ: ما استقر ملكي إلا الآن.
تعددت مساهمات العز بن عبدالسلام في الإفتاء والخطابة والقضاء والتدريس والتأليف، وله في كل إسهام قدم راسخة ويد بيضاء، وانتهت إليه في عصره رياسة الشافعية،
وبلغت مؤلفاته ثلاثين مؤلفاً، وهي دليل نبوغ فذ وقدرة عالية على أن يجمع بين التأليف وأعماله الأخرى التي تستنفد الجهد وتفنى الأعمار فيها،
لكنه فضل الله يؤتيه من يشاء، فاجتمع له من الفضل ما لم يجتمع إلا للأفذاذ النابغين من علماء الأمة.
وشملت مؤلفاته التفسير وعلوم القرآن والحديث والسيرة النبوية، وعلم التوحيد، والفقه وأصوله والفتوى.
ومن أشهر كتبه:
قواعد الأحكام في مصالح الأنام،
والغاية في اختصار النهاية في الفقه الشافعي،
ومختصر صحيح مسلم،
وبداية السول في تفضيل الرسول،
والإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز،
وتفسير القرآن العظيم،
ومقاصد الصلاة،
ومقاصد الصوم.
طال العمر بالعز بن عبدالسلام، فبلغ ثلاثة وثمانين عاما قضى معظمها في جهاد دائم بالكلمة الحرة، والقلم الشجاع، والرأي الثاقب،
وحمل السلاح ضد الفرنج؛ للمحافظة على حقوق الأمة حتى لقي ربه.